بين درنة والحوز

حسن البصري

حين كتب جياني إينفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، عبر منصة «انستغرام»، عبارات تعزية لعائلات ضحايا الإعصار الذي اجتاح مدن ومناطق شرق ليبيا، خاصة مدينة درنة الراقدة على البحر الأبيض المتوسط، استحضرت اللاعب المغربي عمر المنصوري الذي كان نجما من نجوم فريق المدينة المنكوبة، تأملت، والخوف في عيني، أسماء اللاعبين الذين هزمهم إعصار «دانيال» اللئيم ورمى بهم نحو المجهول، فعلمت أن لاعبنا غادر الفريق قبل أن يحل «دانيال» بالمدينة ويحولها إلى مدينة مبعثرة.

من غرائب الصدف أن يحترف لاعبنا المنصوري، في دولتين في عز الانفلات الأمني، عاش بين العراق وليبيا وكان على وشك الانضمام لفريق سوري، حتى ساد الاعتقاد أنه مزود بقميص مصفح وقدم أشبه براجمة صواريخ.

لن ننتظر من الاتحاد الدولي، إعمار الملاعب التي جرفها الإعصار، لأن كل ما يملك في مثل هذه النكبات تدوينات وتغريدات ولايفات، رغم أن إمبراطورية «الفيفا» قادرة على تخصيص دعم خرافي للفرق والاتحادات المتضررة، لكنها لا تملك خلية أزمة، وكأن الكرة والنكبة لا يلتقيان.

للفيفا عشرات الاتفاقيات والشراكات مع منظمات إنسانية قادرة على التدخل لمسح دموع ضحايا الكوارث الطبيعية، فمنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة ومفوضية شؤون اللاجئين وغيرها من المنظمات العالمية، فضلا عن عشرات سفراء النوايا الحسنة الذين لازال المجتمع الدولي ينتظر نواياهم بفارغ الصبر.

في مغربنا عشرات سفراء النوايا الحسنة، «في النائبات قليل»، بعضهم سقطت منه «الحسنة» ولم يعد يملك سوى «النوايا»، والبعض الآخر تجرد منهما معا بمجرد اعتزاله الرياضة.

قال رئيس الفيفا: «قلوبنا وصلواتنا في الفيفا مع كل فرد قد تأثر بالحادث، وخالص التعازي لأسر الضحايا»، ثم مضى كل إلى غايته، لكن هواة الغوص في أعماق منصات التواصل الاجتماعي اكتشفوا أن عبارة العزاء جاهزة سواء تعلق الأمر بزلزال أو إعصار أو تسونامي أو حرائق غابات، التعديل الوحيد هو المكان والزمان.

حين ضرب إعصار «دانيال» مدينة درنة الليبية، عادت بي الذاكرة إلى مأساة الغارة الأمريكية التي ضربت بنغازي وطرابلس، وكنت حينها في منطقة الهضبة الخضراء غير بعيد عن ثكنة العزيزية مقر إقامة العقيد القذافي التي كانت مستهدفة من الهجوم الجوي.

كانت ملامح الغارة بادية على شوارع طرابلس، حيث انتشرت الحواجز الأمنية وظل صوت سيارات الإسعاف ينفذ إلى الآذان، بينما كانت خطب العقيد تفعل مفعولها في وجدان الليبيين كمنشط يجعلهم يؤمنون بقدرتهم على هزم أمريكا.

في منتصف الليل حسب توقيت غرينيتش، انهالت على المدينة أكوام من الصواريخ، هرع الناس إلى خارج مساكنهم بنفس السرعة ونفس الرعب والارتباك. في ساحة بجانب مستشفى الهضبة الخضراء، كان الهاربون من الغارة يتمددون على بطونهم وهم ينصتون لتعليمات الحماية المدنية الليبية التي لا تملك سوى نصيحة يتيمة: «تمددوا وانفخوا أوداجكم».

أطفئت أنوار طرابلس وغادر الناس مساكنهم، إلى الحدائق ومواقف السيارات، بينما فضل كثير من الليبيين مغادرة المدينة المستهدفة هربا من القنابل، وحدها كاترينا الممرضة اليوغوسلافية أصرت أن تلعب دورها وسط الأجساد الممددة، وهي تتأبط حقيبة الإسعافات بالرغم من عمرها الذي قارب الستين وبدانتها. بعد أسبوع عادت المياه إلى صنابيرها، واحتفل الليبيون بالانتصار على أمريكا، وأصبح الرابع عشر من أبريل عيدا للنصر.

قد نكون في حاجة إلى زلزال أو إعصار أو غارة، حتى يأخذ العالم وقتا مستقطعا يتخلص فيه من الشرور، ويستعيد إنسانيته ويتذكر قيمه. في مثل هذه النكبات يتبرع الأثرياء على الفقراء ويسكن الوزراء بالقرب من المناطق المنكوبة، ويقتسمون كسرة الخبز مع المتضررين، والعهدة على كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين.

 



لقراءة الخبر من المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً